أصبحت ظاهرة الرؤى والأحلام وتفسيرها سوقًا رائجة لها زبائن كثر في القنوات الفضائية، لما رأت تهافت الناس السريع عليها، وفيها تجد المهمومين والمغمومين من رؤى عبّرها لهم جاهل بسوء، وتجد الحالمين الذين يعيشون فى الوهم وينتظرون هذه الأحلام بفارغ الصبر ويتعلقون بما قاله لهم آخر.. ومن ذلك يمكن حصر أسباب الشغف بالأحلام ورؤى إلى أمرين: أولهما: ضعف الإيمان والتوكل على الله والتعلق بالغيبيات لحل ما يعانيه الفرد في حياته ..وثانيهما: الضغوط التي يعاني منهـا كثير من الناس في حياتهم، وتضطرهم إلى التعلق بما يخلصهم منهـا ويزين لهم مستقبلهم.
مشروعية الرؤى
القرآن الكريم إلى الرؤيا في المنام وأشار إليها، قال تعالى في كتابه الكريم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس:62-64).. قال عددٌ من الصحابة والتابعين عند هذه الآية: «(لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو تُرى له».
وقال تعالى: «إذ قال يُوسُفُ لأَبيه يا أبتِ إني رأيت أَحدَ عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيداً إنَّ الشيطانَ للإنسان عدوٌ مبين»( سورة يوسف: الآية 4 و5) وقال عز وجل: «فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أَنَّي أذبُحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين» (سورة الصافات: الآية 102)، و «وما جعلنا الرُّؤيا التي أريناك إلاَّ فتنةً للناسِ والشجرةَ الملعونةَ في القُرآن (سورة الإسراء: الآية 60).
والأدلة من السنة كثيرة أيضا في هذا المجال، منها ما رواه أبو هريرة (رضى الله عنه) قال: قال رسول الله [ ﷺ ]: (لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات)، قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» (البخاري حديث رقم 6589).
وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله [ ﷺ ]: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي» (صحيح مسلم: 2266).
وهذه الرؤيا هي التي قال عنها رسول الله [ ﷺ ]: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) (متفق عليه).
اقتراب الزمان هو اعتدال الليل والنهار في فصلي الربيع والصيف كما قال ابن الأثير، وقيل: أراد باقتراب الزمان قرب الساعة ودنو القيامة آخر الزمان، كأنه لما صار الكذب في آخر الزمان متفشياً، وكذلك الكفر والظلم والجهل، عوض الله المؤمنين في آخر الزمان بأمور من المبشرات والمثبتات، وهي الرؤى التي يرونها صادقة صحيحة وتقع كما رأوها، فهذا تعويض للمؤمنين أو بشارة لهم أو تصبير وتثبيت على الدّين.
لكن لماذا يتعجب غير الشرعيين والفلاسفة والعلمانيين من الرؤى وماهيتها وكيف تأتي الإنسان؟.. يجيبنا عن ذلك القرطبي حيث يقول: «سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس وقد غيب عنا علم حقيقتها أي النفس، وإذا كان كذلك فالأولى أن لا نعلم علم إدراكاتها.. بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منه أمورا جملية لا تفصيلية».
ويجيب عن حقيقتها أحد علمائنا وهو المازري [ رحمه الله ] إذ قال في حقيقتها: «والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، لا يمنعه نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علمًا على أمور يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها» (فتح الباري 12/353، عمدة القاري 2/156، شرح النووي على صحيح مسلم 15/17، شرح سنن ابن ماجة للسيوطي 1/278).
الفرق بين رؤيا الصالح والكافر
في صحيح البخاري : (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) (حديث رقم 6582)، واشتراط الصلاح هنا أمر مهم، لأن رؤيا الكافر إذا صحت لا تكون جزءاً من النبوة. ونسأل هل تصح رؤيا الكافر؟
نقول: نعم تصح، فقد ورد أن بعض الكافرين صحت رؤياهم، كرؤيا فرعون التي حكاها القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ» ( يوسف: 43).
الرؤيا جزء من النبوة
نسأل: ما معنى كون الرؤيا جزء من النبوة؟ نقول: إن النبوة فيها تشريع وأحكام، وإنذار وبشارات، وأخبار عما سبق مما لم يعلم وعما سيأتي من الغيب مما لا دليل عليه.. إلخ، وكذلك الرؤيا الصالحة فهي تدل على شيء حسن أو سيء يحدث مستقبلا، فيستعد المؤمن الرؤيا، ويتهيأ لمواجهة الحدث.. وهنا تلتقي النبوة مع الرؤيا في هذه النقطة وهي الإخبار عن شيء سيحدث في المستقبل.. وقد كان أول ما بشر به النبي [ ﷺ ] بالوحي الرؤيا الصادقة، كما قالت عائشة رضي الله عنه: (كان أول ما رآه النبي [ ﷺ ] -يعني من مبشرات النبوة- الرؤيا الصالحة، فكان إذا رأى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح)؛ لذلك صارت جزءاً من النبوة، والله أعلم بمراد نبيه [ ﷺ ].
أنواع الرؤى
قد أوضح لنا رسول الله [ ﷺ ] أنواع الرؤى حيث قال: (إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) (رواه ابن ماجه في سننه وصححه الألباني).
يقول البغوي [ رحمه الله ]: «في هذا الحديث بيان أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله [ عز وجل ]، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها».
النوع الأول
الحلم وهو من الشيطان، وسببه الرئيس هو ضعف الإيمان وعدم الالتزام بالعبادات وبما علمنا إياه المصطفى من آداب وأدعية تلزمنا فبل النوم وبعده.. فيسيطر الشيطان على المرء، فيرى أحلاما مزعجة، وهي ما نطلق عليه كوابيس.. وقد لوحظ أن هذه الأمور تكثر بعد الإفراط في تناول الطعام ثم النوم مباشرة.. وعموما فقد علمنا رسول الله [ ﷺ ] أن مثل هذه الأحلام يجب ألا نشغل بالنا بها حفظا ورواية وقصا وتفسيرا، فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سلمة قال: كنتُ أرى الرؤيا فأمرض منها، حتى لقيت أبا قتادة فذكرت ذلك له فقال: سمعت رسول الله [ ﷺ ] يقول: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلمًا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثًا ويتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره».. وقال أبو سلمة: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من الجبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها.. (متفق عليه).
وقد أمر رسول الله [ ﷺ ] أعرابيا كما في مسلم إلى النبي [ ﷺ ] فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج فاشتددت على أثره!! فقال رسول الله [ ﷺ ] للأعرابي: (لا تحدّث الناس بتلعُّب الشيطان بك في منامك) (مسلم حديث رقم 2268).
ومن الهدي النبوي لمن يري هذه الأحلام:
- أن يتعوّذ بالله من شر ما رأى ثلاث مرات
- أن يتعوذ بالله من شر الشيطان ثلاث مرات
- أن يتفل عن يساره ثلاث مرات
- أن لا يحدّث بها أحدًا ولا يطلب تفسيرها
- أن يتحوّل عن الجنب الذي كان عليه، وأن يصلي عقبها
- أو ليقم فليصل ركعتين فإنها لن تضره.
النوع الثاني
ما يكون من حديث النفس وأعمال اليقظة، هو ما يحدّث به المرء نفسه في يقظته، كمن يكون مشغولاً بسفر أو تجارة أو نحو ذلك، فينام فيرى في منامه ما كان يفكّر فيه في يقظته، ويسميها علماء النفس أحلام الذاكرة، كالعاشق الولهان يجد معشوقته في مناه، وهذا من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها أيضا.. ومن علاماتها يرى ما تحدّث به نفسه في اليقظة أو يرى مستحيلات تتداخل فيها المناظر وتناقض، أو أنه مريض يرى في منامه ما يوافق مرضه.. وغير ذلك مما يجب تجاهله وعدم الاهتمام به.
النوع الثالث
الرؤيا الصادقة الصالحة التي يراها المؤمن في منامه أو يراها له أخ صديق، ولا تكون إلا لمؤمن صافي النفس راسخ الإيمان مشغول بعبادة ربه [ سبحانه وتعالى ]، والرؤيا الصادقة هي إطلاع الإنسان على القضاء قبل أن يتحقّق فيصبح قدراً.. قال النبي [ ﷺ ]: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها) (أخرجه البخاري حديث رقم 6584).
والرؤيا الصالحة لها آداب وأحكام، قال ابن حجر: فحاصل ما ذكر من أدب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء أن يحمد الله عليها.. وأن يستبشر بها.. وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره.
ومن علاماتها: ألا يكون بها علامة من علامات الرؤيا الفاسدة، وأن تكون واضحة الأحداث وفيها بشرى بالثواب على الطاعة أو تحذيرا من المعصية ، وأن يكون الرائي معروفًا بالصدق في كلامه، كما قال [ ﷺ ]: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا) (مسلم حديث رقم 2263) وهذا في الغالب، وإلا فقد يرى غير الصادق رؤيا صادقة يكون فيها إيقاظ لغفلته.. قال الحافظ ابن حجر: جميع المرائي تنحصر على قسمين :الصادقة، وهي رؤيا الأنبياء ومَن تبعهم مِن الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور -أي نادرا كالرؤيا الصحيحة التي رآها الملك الكافر وعبّرها له النبي يوسف عليه السلام- والرؤيا الصّادقة هي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم.. والأضغاث: وهي لا تنذر بشيء، وهي أنواع: الأول : تلاعب الشيطان ليحزن الرائي كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو رأى أنه واقع في هَوْل ولا يجد من ينجده، ونحو ذلك.. الثاني: أن يرى أن بعض الملائكة تأمره أن يفعل المحرمات مثلا ، ونحوه من المحال عقلاً.. الثالث: أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة، أو ما يغلب على مزاجه ويقع عن المستقبل غالبا وعن الحال كثيراً وعن الماضي قليلاً. (فتح الباري 12 / 352).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق