عندما أعلنت السلطات الأسترالية في 19 أبريل من عام 1997م خبر الإفراج عن أخطر رجل في أستراليا السفاح (ارشيبالد بيتي ماككافري) الملقب بالكلب المسعور قامت الدنيا ولم تقعد، فقد كان الإفراج عنه بعد قضاء 23 سنة في أكثر سجون أستراليا صعوبة وقسوة، بمثابة الكابوس، واجتاحت المجتمع موجة من الغضب العارم.
كانت جرائم الكلب المسعور دامية وبشعة، وأدخلت الحزن الشديد في قلوب أصدقاء وعائلات الضحايا، وتمنوا له الموت في السجن، فهو بأية حال يستحق كل ما هو سيئ، وحتى الأطباء النفسيون الذين اختارتهم المحكمة ليدلوا برأيهم النفسي حول حالته تمنوا له الموت خلف القضبان, لكن بعد فترة تنفس الجميع الصعداء بعدما أصدرت الشرطة بيانا صحافيا حول قرارها بترحيله إلى اسكتلندا موطنه الأصلي، رغم أنه عاش معظم سنوات عمره في أستراليا، وبدا واضحا أنه خلال فترة حياته التي أمضاها في تلك الجهة من العالم لم يفكر في أن يكون مواطنا أستراليا صالحا، فلم يكن لديه المتسع من الوقت لمثل هذه الترهات.
بالطبع لم يعجب هذا القرار السلطات الاسكتلندية، فقد وجدت الشرطة الأسترالية طريقا للخلاص من مجرم وسفاح لا يرحم، مارس أبشع الجرائم والتي لم تحدث في تاريخ أستراليا من قبل، وكانت السلطات الاسكتلندية على دراية بالسفاح وبتاريخه الطويل العامر بالمخالفات وانتهاكات القانون طوال سنوات طفولته في موطنه.
طفولة شقية
عندما كان في العاشرة من عمره، هاجر والداه من اسكتلندا إلى أستراليا، تركا وراءهما حياة الشقاء والفقر بحثا عن حياة جديدة وبآمال عريضة وطموحة وأحلام بالسعادة. انتقلت الأسرة المهاجرة أولا إلى مدينة (ملبورن) ومنها إلى ضاحية (باس هيل) بمدينة سيدني.
بدأت المتاعب تظهر بعد عامين من وصول العائلة إلى أستراليا، ودخل في مشاكل مع الشرطة، وأدخل لمعهد إصلاحي بعد قيامه بالسرقة التي تعود عليها في بلاده قبل وصوله وببلوغه الثامنة عشرة من عمره، كان الطفل الشرير قد دخل إلى السجن الإصلاحي خمس مرات, وصنف من ضمن الأحداث الجانحين.
وصفه أحد رجال الشرطة الذين تعاملوا معه بأنه أكثر الأطفال المجرمين شقاء ممن قابلهم في حياته، وقبل بلوغ الرابعة والعشرين كان الطفل الشرير قد دخل وخرج من السجن مرات عديدة، وسجل رقما قياسيا في عدد الجرائم التي ارتكبها، 35 جريمة تنوعت بين السطو، سرقة السيارات، الاعتداءات، التشرد وتلقي بضائع مسروقة. وبعد كل هذه الانتهاكات الصريحة للقانون لم يصنف حتى تلك اللحظة من عمره كمجرم عنيف. دخل في مشاجرات عديدة مع رجال الشرطة لكن جرائمه الأخرى لم تكن عنيفة بأية حال من الأحوال رغم ميوله العدوانية وحبه لمناظر العنف، فقد كان عاشقا لأفلام العنف، ومن أفلامه المفضلة فلم العراب وبعض الأفلام الأخرى التي شاهدها مرارا وتكرارا من دون ملل وبالتحديد بعض المشاهد العنيفة، لم يطبق ما يشاهده في الأفلام تجاه البشر وإنما تمتع بخنق الدجاج والكلاب والقطط على حد قوله لاحقا للطبيب النفسي.
وعندما وقع في الحب وتزوج من صديقته (جانيس ريدنغتون) في أبريل 1972م صلت عائلته شكرا وحمدا لله، فقد ظنت أن الشاب الجانح سيجد الاستقرار الزوجي والنفسي وسيودع حياة الإجرام والشقاء إلى الأبد، التقى الزوجان في أحد الفنادق حيث كانت تعمل (جانيس) بدوام جزئي كعاملة بدالة، وبعد ستة أسابيع من الزواج عثرت الزوجة على زوجها مع امرأة أخرى في فراش الزوجية، لم تكن مستغربة لهذا الأمر، لكن زوجها المجرم تعامل مع المشكلة بمنتهى العنف، وأثر ذلك على نفسيته ما جعله يقدم على زيارة مستشفى الأمراض النفسية لأول مرة.
بعد تخريج نفسه من المستشفى بمحض إراداته، قذف الكلب المسعور بالأدوية والمسكنات التي صرفت له بعيدا وبدأ إدمان الخمر، وأفرغ غضب السنين ومعاناته في زوجته، ورغم أنها كانت حاملا فإن ذلك لم يمنعه من ضربها كلما تناول المسكرات، والتي كانت تحدث في معظم الليالي، وذات مرة ضغط بأصبعيه على قصبتها الهوائية ومنع مرور الهواء إلى جسمها، وتركها عندما أحس بأنها على وشك الدخول في غيبوبة.
في ليلة من الليالي المريرة التي كادت فيها (جانيس) أن تفقد حياتها، بسبب عنفه، ذهب إلى المستشفى وأخبر الأطباء النفسيين برغبته في قتل زوجته وعائلتها وطلب إخراج الأفكار الشريرة من رأسه. أمضى عدة أيام في المستشفى وخرج منه كما دخل، ولم يجد الأطباء سببا واحدا يجعلهم يحرصون على بقائه في المستشفى.
الزيارات المتكررة لمستشفى الأمراض النفسية لم تغير شيئا في حياته، عاد مرة أخرى للحياة العبثية وإدمان الخمور واللهو غير المباح، كما دأب على تناول المخدرات. حصل على وظيفة في شاحنة لجمع القمامة جعلته يهدأ لفترات قصيرة أثناء النهار فقط.
القشة التي قصمت ظهر البعير
وقالت والدته إن ولادة حفيدها (كريج) في 4 فبراير 1973م أحدثت تغييرا جذريا في حياته وتحول إلى شخص مختلف، ولم توافقها زوجته على هذا الأمر، فقد أوضحت أنه لم يتوقف عن إدمان الخمر، وتناول كل أنواع المخدرات التي تصل إليها يده، كانت الزوجة خائفة من أن يقوم زوجها بأخذ ابنها في السيارة وارتكاب حادث يؤدي إلى قتله، هذا الحذر الشديد لم يمنع القدر، ومات الطفل خلال ستة أسابيع.
في تمام الساعة الثالثة والنصف من صباح يوم السبت 17 مارس 1973م، أخذت (جانيس) طفلها إلى الفراش لترضعه، ونامت ولم تستيقظ إلا في التاسعة صباحا لتجد مفاجأة من العيار الثقيل في انتظارها وقالت للمحققين الذين أجروا التحقيق معها في تلك القضية "شعرت بشيء تحتي في فراشي، وقفزت على الفور من الفراش، ورأيت طفلي وقد اكتسى لونه باللون الأحمر، وعرفت أنني ارتكبت خطأ فادحا لا يغتفر، رأيت الدماء تملأ وجهه وجلباب نومي، وما زالت حمالة الثدي مفتوحة، وربما أكون قد انقلبت على طفلي أثناء نومي".
وفي التحقيق، الذي أجري في 24 أغسطس من عام 1973م، قال الطبيب الشرعي (جون دن) إن الطفل قد مات عن طريق الخطأ عندما كانت والدته غارقة في نومها، أثناء قيامها بإرضاعه، وبرأ ساحة الأم وقال: "كان لا بد من استعمال الرأفة مع الأم الشابة ومساعدتها في محنتها، خاصة أنه لم يتبين ما يثبت تعمدها في حادثة الطفل".
لم يقتنع الأب (أرشي) بهذه الادعاءات واتهم زوجته بقتل طفلهما، وتركها وحدها لمدة أسبوع، ولم يحضر التحقيقات التي أجرتها الشرطة بخصوص الحادث، وبعث برسالة إلى الطبيب الشرعي يتهم فيها زوجته (جانيس) اتهاما مباشرا.
ويقفز السؤال: هل دفعت حادثة مقتل الطفل بتلك الصورة بالأب لحافة الهاوية؟ سؤال احتار واختلف الأطباء النفسيون في الإجابة عنه، أثرت الحادثة على حالته النفسية المضطربة في الأصل، ولكن هل هي الشرارة الأولى التي أشعلت النيران في دواخله لتلتهم الأخضر واليابس؟
حدث الانفجار الأول في شخصيته بعد أسبوع واحد من وفاة ابنه (كريج)، فقد ذهب إلى إحدى الحانات لتناول المشروبات بعد تشييع الجنازة مع بعض الأصدقاء وبعد مغادرتهم الحانة بدأ في سماع أغنية حزينة أعادت له ملامح طفله، وذكرياته معه، حدثت مشادة وصخبا شديدا هربت في إثره الزوجة من المكان، في اليوم التالي وبعودته إلى منزل والدته في منطقة (باس هيل) كانت الدماء تغطي وجهه ويعاني من كدمات شديدة، وطلبت منه والدته الذهاب إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم، واتضح أن شقيق زوجته وصديقه اعتديا عليه بالضرب بعد المشادة الكلامية.
في ذلك اليوم، أخذه أحد أصدقاء العائلة إلى مركز (باراماتا) للطب النفسي، حيث تم حجزه لتلقي العلاج. وهي المرة الثالثة خلال تسعة أشهر التي يحضر فيها بنفسه لمستشفى الأمراض النفسية، في هذه المرة وعندما أراد الخروج من المستشفى بمحض إرادته كعادته اتصل العاملون بالمستشفى إلى الشرطة وأخبروهم بحكاية المريض الغريب.
الرقم سبعة
كان (أرشي) مولعا وشغوفا برسومات الوشم، وزياراته للواشم كزياراته لطبيبه الخاص، ومن خلال العلاقة الدائمة عرف الواشم كل أسرار زبونه الدائم، يثق فيه ثقة عمياء، يستمع إلى نصائحه وأفكاره النيرة. يمضي الساعات الطوال جالسا بين يدي الواشم حتى امتلأ جسمه برسومات الوشم ووصلت إلى 200 رسمة ولم يبق مكان من جسمه إلا ووصلته إبر الوشم.
ولتصوير هذه الرسومات اضطرت الشرطة لاستخدام مئات الأفلام ووصل الأمر بمهووس الوشم أن وشم حلمات أذنيه، ولم يتوقف عن هذه العادة حتى وهو بداخل السجن، واستخدم الحبر الهندي وإبر الخياطة لوشم نفسه. كان جسمه لوحة إعلانات متحركة، يعلن فيها كراهيته للشرطة وكتب بين كتفيه على الظهر هذه العبارة "الرجل الذي يضع الأقفال في أيادي الآخرين لم يولد من رحم امرأة" وفي مكان آخر كتب "أنا أكره رجال الشرطة وأريد قتلهم" ولم تقتصر هذه الرسومات على إعلان الكراهية لرجال الشرطة وإنما تعدتها لصور حيوانات وزواحف وأسماك القرش.
والغريب أن (أرشي) قد احتفظ بمساحة في صدره لوشم خاص لم يحدده حتى مقتل ابنه، ولم يكن يعلم كيف يكون شكله، وفي اليوم الذي خرج بنفسه من مركز (باراماتا) للطب النفسي ذهب إلى الواشم وطلب منه ملء المساحة الشاغرة، وتم نقش وردة حمراء وكتب أسفلها (في ذكرى كريج).
بعد عدة أسابيع زار (أرشي) الواشم مرة أخرى لنقش الرقم (7) بين أصبعي الإبهام والسبابة، ربما يكون الجزء الوحيد من جسمه الذي لم تصل إليه يد الواشم. واختار (أرشي) هذا الرقم لسببين، أولهما أنه قرر الثأر لمقتل ابنه بقتل سبعة أشخاص والسبب الثاني اعتقاده أن الرقم (7) رقم الحظ السعيد، واستخدم هذا الرقم لمرات عديدة بعد ذلك في حياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق